تسريبات من " طوق النجاة"
أبدأُ مقالتي هذه بمشاركتك حوارًا نموذجيًّا موجودًا في بعض البيوت، بطله من جهةٍ هي الأم التي توجّه الكلام لابنها الذي يبلغ ١٢ عامًا بعدما أعطاها شهادة علاماته بالمدرسة، فتقول له: "معدَّلك هذا العام ٩٦، ولستَ الأول، وترتيبك الثاني على الصف! ما الذي كان ينقصك حتى ينزل معدَّلك وترتيبك بهذا الشكل؟!"
على الطرف المقابل، طأطأ ذلك الولدُ المكسورُ رأسَه، وفي ذهنه تدور أفكارٌ عديدة، لكن القاعدة التي بدأت تتشكَّل منذ مدة ودعمها هذا الموقف، هي: *"مهما فعلتُ فسيكون غير كافٍ، أنا لستُ كُفُؤًا."*
مع هذا الحوار، نشهد بذور تكوُّن أحد "اللَّا مُكْتَفِين"، وهذه ميزةُ عصرِنا بامتياز.
فكم من موظَّفة تشعر بأنَّها لا مُكْتَفِيَة مهما قامت بمهمات عملها، وتظن أنَّها مقصِّرة مهما فعلت...
وكم من زوجٍ يشعر بأنَّه لا مُكْتَفٍ رغم قيامه بكافَّة أدواره على أكمل وجه، ويظن أنَّه غير كافٍ...
وكم من رجل أعمال حقَّق العديد من النجاحات، لكنَّه لا يكتفي لشعوره بأنَّه لم يُنجز ما يصبو إليه بعدُ على أكمل وجه...
وكم من طالبة جامعية تشعر بأنَّها لا مُكْتَفِيَة، بالرغم من أنَّها في كلية الطب ومن الأوائل، ولكن تسيطر عليها هواجس الفشل، والخشية من عدم القدرة على الأداء العملي بشكل وافٍ...
خلف هذه المواقف تنشط الاتجاهات المختلفة للَّا مُكْتَفِين؛ فمن التوجّه للإنجاز المرتفع جدًّا، إلى التوجّه للإتقان غير العادي، إلى النزوع للعمل بكمالية فائقة، إلى الظن بضرورة التنافسية الشرسة، وكأن التراتبية بعد الرقم الأول هي صفر، وليس الثاني أو الثالث...
وعلى الوجه الآخر، تُخفي هذه التوجّهات هواجسَ الخشية من التقصير، أو التعرُّض للانتقاد، أو الفشل، أو حتى الفردانية بضرورة أن يكون هو "الأول فقط"، أو حِسّ المسؤولية المتضخِّم بضرورة عدم ارتكاب ولو أبسط الأخطاء، أو ضرورة تحقيق أعلى المعايير بلا حدٍّ ولا سقفٍ واضح.
فتخيَّل أن تكون شجاعتُك هي أحد أهم أسباب بقائك خائفًا طوال الوقت..! أو أن تكون قوَّة عملك هي أحد أسباب قلقك الشديد والمستمر خشية التعرُّض للفشل...
ومن حيث يجب أن تنتهي مقالتي، سأكتب عن أهم النتائج المرتبطة باللَّا اكتفاء، وهي *فقدان الشعور بالرضا*.
ولتَشبيهِ ذلك، فلتَرسم صورةً تشريحية، فكما أن الدم هو الناقل النشط في الجسم لكافة احتياجاته فيزوِّده بما يُغذِّيه، ويخلِّصه مما يؤذيه، وتُشكِّل صفائحه طبقةً تتعافى معها جراح الجسد، فكذلك نقيس *شعور الرضا*، حيث يتدفّق في ثنايا النفس، فيُثوِّر الإرادة، ويحفّز العزيمة، ويجعل الآثار الخمسة الكبرى في الحياة (نمط العيش، والعافية، والصِّلة، والإنتاجية، والنماء والزكاء) في أفضل مستوياتها، بل وأعلى مردوداتها، إضافةً لما يُداويه هذا الرضا من جراحات النفس غير المرئية التي تركتها الظروف والأيام، فيكون منه *تِرْيَاق التعافي* من تحديات لم تمرّ بسهولة.
وهذا يُشكِّل معادلتنا ذات الطرفين، فمقابل قُطب اللَّا اكتفاء، نجد قُطب اللَّا رضا، وهذا يعني بالضرورة أنَّ *حِسّ الاكتفاء يزيد في مستوى مشاعر الرضا*، ولعل هذا هو ما يصف أحد أهم متآزمات جيل العصر الحالي، وهي *(اللَّا اكتفاء)*، أو سمِّها إذا شئت *متآزمة نقص الرضا*، ولعل توصيفها بـ"نقص القناعة المُكتَسَبة" يُعطيك تصورًا أعمق لحقيقة وطبيعة هذه المتآزمة.
ما سأنقله لك هنا يتعدّى حدود رَصده جدرانَ العيادة، وما نراه كلَّ يومٍ من أحوال الناس، ويتعدّى جدران قاعات التدريب، وما يشكو منه غالب طلابنا، بل يمتدّ إلى كلّ مكوّنات المجتمع.
فالمطالبة بالمزيد في ازدياد، حتى صارت سِمة العصر، ومطلب الأوساط الاجتماعية، وشكَّلت وجهة نظر الكثير من أفراد المجتمع.
فالمعايير العاليةُ في ارتفاع، لدرجة شيطنة المكتفي أو من يرضى بالكافي، فقد تم تصدير مصطلحات اجتماعية هُلامية بحقّ المكتفين، وكأنهم متَّهَمون؛ فالمكتفي صار يُطلق عليه:
"عديم الطموح"، و"ضعيف الهمة والعزيمة"، "مهمل لمهامه ومسؤولياته"، "خامل" أو "كسول".
وهذا طبيعي بعد أن صار غالب الناس يدينون بدِين الإنجاز المادي، والتفوق التراتبي، والتنافس الفردي، والشهرة والتصدُّر.
في نموذج المَنَعة النفسية، نعتبر أنَّ *المطلوبات* هي أساس محركات الإنسان؛ فماذا تريد؟
تترتّب تحت هذا السؤال مرغوباتك، ومحبوباتك، وتفضيلاتك، وكلها مطلوبات، حتى مكروهاتك وما تُبغضه ولا ترغب به، يأتي ضمن الوجه الآخر لقائمة المطلوبات تحت بند *(غير المرغوب وقوعه)*، وهذا بحد ذاته يُعدّ مطلبًا مهمًّا يسعى الجميع له، على اختلاف طبيعة مطالبهم لما يريدون وما لا يريدون.
يبدأ بناء قائمة المطلوبات منذ لحظة الميلاد، لكن قائمة مطلوبات الوليد لا تتعدّى كونها متطلبات العيش من مأكل وصحة وأمان، لكن الذي يكفل توفيرها -بعد عناية الله تعالى– هم المربّون للطفل، ومع كل عام تبدأ قائمة المطلوبات بالتوسُّع بحسب ما يُربّى عليه الطفل، فيَسمعه كل يوم أو يراه كل حين، فما يراه الطفل أمامه هو جزء من رسم تصوراته لما يجب أن يطلبه في حياته.
كما تزيد استقلالية الطفل تدريجيًّا حتى كلما كبر، صار ذو استقلالية أعلى في تحقيق مطلوباته، فستراه مع الفِطام يُمسك الملعقة بيده ليأكل، مُبعثرًا كل ما حوله بالطعام، لكن بعد عام يتمكّن بشكل أكبر من تنظيم طريقة أكله، ويعبّر عن تفضيلاته لما يطلبه من الطعام أو ما يرفضه، ثم بعد ذلك ستجده يُحضِّر شطائر الطعام البسيطة، ولاحقًا مع سن التمييز تراه يُحضِّر أطباق الطعام بالوجبات البسيطة، ويُساعد في إعداد الوجبات الكبيرة ويتعلّم ذلك، حتى تراه مع مرحلة المراهقة يستطيع إعداد الطعام ويَحترف ذلك في سنّ الرشد.
فلاحظ كيف تدرّجت القدرة على الوفاء بمتطلب الأكل دفعًا للجوع وطلبًا لمتعة الأكل.
خلال أعوام الطفولة وصولًا للرشد، تتوزّع المطلوبات ضمن عدة فئات:
(فهنالك المطلوبات من النفس، ومن الآخرين، ومن الحياة، ومن القَدَر، ومن المستقبل).
ومع التمييز وضمن نشأة في مجتمع مسلم، سترى الطفل يربط القدر والمستقبل بالله وحق العبودية له والاستعانة به.
وفي المقابل، تجد النفس الأمّارة بالسوء، يرافقها داعي الهوى والشهوة والأمنيات، مع حظ الشيطان من الإنسان، بحيث تسعى كلها في كدر الإنسان وتنغيص عيشه وإحزانه، وكل ذلك له مقعد في قلب الإنسان يُحدِثه ويُسقِط في رُوعه رغم إنتاجيته، فيقول:
أنت مُقصِّر، لن تُجاريهم، لقد تفوّقوا عليك، ليتك تملك ما يملكون، أنت ضعيف، لن يكفيك ما لديك أبدًا، تحتاج المزيد من... وتحتاج المزيد لـ... وتحتاج المزيد مع... المزيد و... المزيد...
وأنا لا أتحدث عن دور النفس اللوّامة هنا حين يكون الإنسان مقصِّرًا فعلًا، أو كسولًا حقيقة، أو غافلًا من الأساس، بل أتحدث عن "اللَّا مُكْتَفِي" الذي رغم إنتاجيته، فهو مسلوب الشعور بالرضا، دائم النقد لنفسه.
ممّا جعل الكثير من الناس ممثّلين قسرًا في دورٍ يتكرّر في حياتهم كل يوم، وهم يحسبون أنهم يحقّقون بهذا الأداء ذواتهم وأدوارهم الاجتماعية والمهنية، وبالتالي إعادة تشكيل مجتمعهم ليكون ساميًا قويًّا، فهم قد وجدوا "الإكسير" لرفعة الإنسان والمجتمع في كثرة وتشدد المطلوبات، ولا بد الآن من اتباع الوصفة...
تكمن المشكلة في أن تتعدّى المطلوبات حدود المعقول، أو مساحات الممكن، أو مستوى المقدرة والاستطاعة.
وفي حالات أخرى، قد تتعدّى المجال الزمني، بحيث يُطلب ما يحتاج شهورًا بأن يحدث في أيام، أو ما استغرق عمرًا من أحدهم، يُطلَب بأن تُنجِزه في فترة وجيزة...
وكما وضَّحنا سابقًا، سينعكس كل ذلك سلبًا على مركز الدائرة النفسانية وهي *مؤشر الرضا* في حياتك، مما يتسبّب بمشاعر الإحباط، وصولًا لحالات العجز، والتي تظهر من خلال كثرة التسويف، وشدّة التأسُّف على ما يمضي من الوقت دون إدراك المطلوبات.
في الحديث النبوي إشارة واضحة لما نحتاجه كقاعدة انطلاق لضبط المسألة واللَّا اكتفاء.
هذا الحديث يرويه *سَلَمَةُ بن عُبَيْدِ الله بن مِحْصَنٍ الخَطْمِيّ*، عن أبيه –وكانت له صحبة– قال: قال رسول الله ﷺ:
*"مَنْ أَصْبَحَ مِنكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِندَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا."*
يعني: من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من مَلَكَ الدنيا لم يحصل على غيرها.
فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشُكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعِم، لا في معصيته.
ولكن ما يحصل مع اللَّا مُكْتَفِي أنَّه دخل في دهليز المطالبات، والرغبة في الاستكثار، وحِسّ الانتقاص، وتقليل شأن وقيمة ما لديه وما بين يديه.
الكاتب
د.يوسف مسلمالدكتور يوسف مسلَّم
استشاري العلاج النفسي